كنت قد كتبت في مقال سابق عن دور العقل في الإسلام، وأن رسالة الإسلام إنما جاءت مخاطبة للعقل، ومحرضة له لكي يعمل وينتج ويستخلص الحقائق... وهو عكس المفهوم الذي جاءت به الصهيونية العالمية بدعوى تدميرية تهدف إلى إلغاء العقل واستبداله بما اطلقـــوا عليه الفوضى ( التدمير ) الخلاقة... وهي مسألة في غاية الخطورة، خاصة لمن لم يقرا التاريخ من أولئك البسطاء الذين لم يعرفوا أن اليهـــود حين عظمت الأحداث فيهم فعصوا الله وقتلوا الأنبياء؛ أراد المولى أن ينتقم منهم، فأرسل إليهم من أرضِ بابل – من قبل بهمن ملك الفرس - ملكاً يُقـال له بخت نصر( من عبدة النيران أنذاك ) كان حفيف راياته كطيران النسور، وحمل فرسانه كسرب العقبان، يعيدون العمران خراباً، والقرى وحشاً، ويعيثون في الأرض فساداً، ويتبرون ما علوا تتبيراً، يجولون في الأسواق بأصواتٍ مثل زئير الأسدِ، فجاسوا خلال الديار. حكم بخت نصر في اليهود حكم الجاهلية وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث، وسَبَى الثلث، وهدم بيت المقدس، وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم، ثم عاد إلى بلاده بأموالهم والسبايا...
وهذا تاريخ لم يغفله اليهود قط، وإنما ظلوا يحملونه ليومٍ يُرد فيه الثأر على من قهرهم ودمرّهم وكان سبباً في شتاتهم...
من هنا أتت حرب الخليج التي أودت في النهاية بتحقيق الثأر لليهودية (والصهيونية) التي تهدف في ظاهرها إلى إسقاط نظم الاستبداد وإحلالها بنظم الديموقراطية؛ متخذة من القضاء على الإرهاب شعاراً لها، وفي الباطن هي خطوة كُبرى في طريق تحقيق شرق أوسط جديد، بعد تفكيك كل مقوماته وروابطة... ومن ذلك تفتيت العراق بين سنة وشيعة وأكراد...
إذ يقوم الحلم الصهيوني على فكرة التفتيت؛ أي تفتيت الدول العربية إلى عدة كانتونات ودويلات تتصارع وتتناحر مذهبياً وعقائدياً، فثمة مخطط وضعه برنارد لويس لتفتيت العالم الاسلامى وتفكيكه؛ ذلك المفكر الصهيوني الذي قال في مقابلة له اجرتها معه إحدى وكالات الاعلام في 20/5/2005: ( إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم واذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية ارهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات، ولذلك فان الحل السليم للتعامل معهم هو اعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور؛ فان عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنب الاخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان, إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلي وحدات عشائرية وطائفية ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك ” إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا “، ولا مانع عند إعادة احتلالهم من ان تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة علي الحياة الديمقراطية, وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط علي قيادتهم الاسلامية - دون مجاملة ولا لين ولا هوادة - ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الاسلامية الفاسدة, ولذلك يجب تضييق الخناق علي هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها قبل ان تغزوا أمريكا وأوربا لتدمر الحضارة فيها) .
يجيء لفظ فوضوي كترجمة لكلمة an-archie أناركيا؛ و هي تعني اللاسلطة او ضد السلطة؛ فالفوضوية نظرية سياسية تدعو لإبطال دور العقل وتعطيل النظام بسبب غياب السلطة المنظمة، كما تري أن الدولة هي العدو الاكبر للفرد ومن هنا ضرورة العمل علي ازالتها، لضمان قيام الحريات المطلقة دون دون قيدْ أو رادع ودون شرطة او وسائل قمع وردع، فالقانون الاجتماعي يتحقق من تلقاء نفسه بدون رقابة ولا قيادة انما بتلقائية مطلقة.
ذلك المشروع الذي اعتمدته الولايات المتحدة لسياستها المستقبلية، فهل تفاجأت أمريكا بالثورات العربية ؟ ... سؤال يحتاج إلى إجابة عميقة ...
لا شكّ أن إجابة مثل هذا السؤال نجدها لدي الملايين من الفقراء والبائسين والمقهورين...
الخطورة تكمن في هؤلاء الذين ينتمون إلى عوالمنا - بعضهم قد لبس لباس الثورة وصار يتشدّق بالعبارات الجارية على لسان الثوار بصفته أحد زعماء الثورة - ويحملون راياتنا، وهم يضمرون حقداً على شعوبهم، يبذلون طاقاتهم لخدمة الغرب والصهيونية حفاظاً على عروشهم المترنحة ومكاسبهم الرخيصة...
ولكن ما من شكٍ في وجوب الحذر واليقظة فثمة مخطط أمريكي على وشك التنفيذ وكأن مسلسل العراق ما زال حاضراً أمام أعيننا...
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن..
والرياح هنا هي الثورات العربية التي اندلعت متتابعة كحبات المسبحة المنفرطة، لتقضي على أنظمة متعفنة، أنظمة ماتت وتعفنت منذ عشرات السنين، حتى كادت رائحتها أن تصيب الأرواح الذكية بالرغبة في التقيؤ كلما لفحتها بريحها النتن...
لقد استطاعت تلك الأنظمة بكل ما لديها من حيلْ شيطانية أن تقضي عمّا بقى من رمقِ الحياة في قلوب الملايين من الأبرياء، لدرجة ماتت معها القلوب والضمائر، وصار بها الإنسان مجرد آلة تعيش لتعمل بلا روح ولا عقل ولا منطق...
لقد أصبحت الشعوب في ظلِّ هذه الأنظمة تتسم باللامبالاة والصمت والخنوع... فما بالك بشعب تلك هي خصائصه؟!... هو شعب ميت على قيد الحياة بلا شك...
لم يكن ثمة طريق إذن للخلاص غير الثورة !...
الثورة التي أشعل لهيبها فئةُُ ممن بقى فيهم مضغةً حيّةً من ضمير وأمل في الحياة، فئةُُ لفظت كل أوجه التعفن؛ فمازالت تشعر وتفكر وتسعى للحصول على أبسط ما لها من حقٍ في تنفس هواءً نقياً... والتي من أهمِّ مكاسبها القضاء على حالة الخوف التي سيطرت على مشاعر الشعوب لسنواتٍ طويلةٍ من جراء السياسات المتبعى من قبل الأنظمة الحاكمة من ظلم واستبداد وقهر وترويج للصهيونية الكاذبة الخادعة التي تقوم على أساليب الدعاية وهي في الأصل خواء!!! ...
وإني لأزعم أن هذه الثورات لهي أحد أهم البراهين على قربِ سقوط الكيان الصهيوني الفاسد؛ الذي حَمَلَ أساليب ووسائل الفساد عبر ممرات التاريخ الطويلة حتى وصل به إلى قمَّتهِ بإتيان كل ما أتت بجزءٍ منه أقوامُُ سابقة أبيدت كلها بما أتته، فما بالنا بقومٍ واحدٍ " كالكيان الصهيوني " الذي جاء بكل هذه الخطايا التي من شأنها أن تثير غضب الخالق عزَّ وجلّ، إن الإبادة لهي أقل ما يمكن أن ينالوه من غضبٍ، لكن وجودهم ذا صلة باستمرار عجلة التاريخ إلى أجلٍ مُسمَّى، وهذا ما أخبرنا به المولى في القرآن الكريم، وحَسبي أن ذلك الأجل يقترب أكثر فأكثر، بل بات وشيكاً...
ولن تجدي كلّ الحيل المستباحة من قبل الصهيونية لتدمير مصر والشرق، مثل محاولة تقسيم الشعب المصري والإيقاع بين الشعب والجيش، وتفتيت الشعوب إلى فئات متناحرة، والمدن إلة كانتونات متفتتة..
كل ذلك لن يجدي في رأيي، ولو اطلعت الصهيونية على حركة التاريخ، لعرفت أن مصر ذات كيانٍ شديد التماسك، ولا يمكن أبداً تفتيته...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا من أهلها جندا كثيفا فإن بها خير أجناد الأرض ـ فقيل ولم يا رسول الله قال: لانهم وأهليهم فى رباط إلي يوم القيامة )...
يقول القس منسي يوحنا في كتابه تاريخ الكنيسة القبطية [28] (ص 306): وكان جيش العرب في فاتحة هذا القرن، حاملاً لواء الظفر في كل مكان، وظل يخترق الهضاب والبطاح، ويجوب الفيافي والبلاد، حتى وصل إلى حدود مصر تحت قيادة عمرو بن العاص، فدخل مدينة العريش وذلك سنة 639، ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر، ولما استولى عليها وجد بها (أرمانوسة) بنت المقوقس فلم يمسها بأذى، ولم يتعرض لها بشرِّ، بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف، مكرمة الجانب، معززة الخاطر، فَعَدَّ المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها حسنة له." - ثم يستطرد منسي قائلاً في (ص 307)- "فجمع المقوقس رجال حكومته، وذهب للتفاوض مع رسل من قِبَل عمرو، فبدأ وفد الروم بالتهديد والوعيد للمسلمين، بقتلهم وإفنائهم وأنه لا بديل أمام المسلمين غير الموت أو الرحيل، فلما بدأ وفد المسلمين، فلم يفعل كوفد أهل الصليب إنما طرح أمامهم ثلاثة بدائل: أولها الإسلام وثانيها الاستسلام مع دفع الجزية لقاء قيام المسلمين بتسيير أمور البلاد، ثم كان الخيار الثالث والأخير وهو الحرب والقتال الذي طرحة جيش الصليبيين الروم المحتلين لمصر كاختيار لا بديل. فاتفق رأيهم على إيثار الاستسلام والجزية، واجتمع عمرو والمقوقس وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها: أن يُعطَي الأمان للأقباط، ولمن أراد البقاء بمصر من الروم، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وفي نظير ذلك يدفع كل قبطي "دينارين" ماعدا: الشيخ، والولد البالغ 13 سنة، والمرأة". - ثم يستطرد منسي قائلاً - "وذكر المؤرخون أنه بعد استتباب السلطان للعرب في مصر، وبينما كان الفاتح العربي يشتغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية، سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهات، أن أمة جديدة ملكت البلاد، فسار منهم إلى عمرو سبعون آلفاً حفاة الأقدام، بثياب ممزقة، يحمل كل واحد منهم عكاز... تقدموا إليه، وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه، أجاب عمرو طلبهم، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه". - ويقول القس منسي - (خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد، في وسط (منطقة) الفسطاط التي جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة، على حين أنه لم يكن للمسلمين معبد، فكانوا يصلون ويخطبون في الخلاء). - ويستطرد منسي قائلاً في(ص209)- "أنه قَرَّب إليه الأقباط، وردّ إليهم جميع كنائسهم التي اغتصبها الرومان".[
ذلك هو الإسلام الذي تسعي الصهيونية إلى تشويهه بغية إحداث الفتن في مصر بين المسيحيين والمسلمين من ناحية، والايقاع بين طوائف وفئات الشعب من ناحية أخري، والأيقاع بين الشعب والجيش من ناحية أخيرة..!...
لكنهم أغفلوا – أو تعمدوا ذلك – بشارة رسولنا الكريم " الذي لا ينطق عن الهوى " بأن الشعب المصري سيظل في رباطٍ إلى يومِ الدين...
يقول كعب الأحبار: لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر؛ فقيل: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلك يعافون، ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
يقول المولى عزّ وجلّ {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} (يوسف :99)
ومن أشكال ذلك الرباط تلك اللجان الشعبية التي تشكلت – من جميع فئات الشعب – حينما انسحبت قوات الأمن فجأة يوم الثامن والعشرين من يناير عام أحد عشر بعد الألفين لإحداث فجوة أمنية، فقامت اللجان الشعبية بتوفير الحماية الأمنية، وخلق مناخ أمني لم يتأتى لأي دولة أخرى...
تلك هي ثقافة الترابط التلقائية لدي الشعب المصري، تلك الثقافة التي لا تظهر بجلاء إلا في أوقات الشدّة والأزمات..
من أجل ذلك ستظل مصر باقية شامخة...
لذلك فإني أدعو إلى العمل على تكوين لجان شعبية رسمية ( من كافة فئات ومعتقدات الشعب بما فيها الكنيسة ) تعمل بصورة منظمة لحماية الوحدة الوطنية أولاً، ولحماية ممتلكات الدولة وكذلك لإحباط مخططات الغرب، بحيث يترأس هذه اللجات مجلس قومي من سبعٍ وعشرين عضواً بعدد محافظات مصر ( من كل محافظة عضو منتخب ) وليحل هذا المجلس محل مجلس الشورى ويكون دوره في إطار قيادة عمل اللجان الشعبية في شتي مجالات الحياة ( كدور مساعد للأداء الحكومي ) خاصة وقت الشدائد والأزمات، وليكون ذلك هو الرد الصريح على كل من يحاول أن يفتت رباط المصريين أو النيل من أمنها.
***
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.